العدالة الانتقالية: دور أساسي في بناء المستقبل
أمستردام 12 يوليو 2024: راديو دبنقا
مع اندلاع حرب 15 أبريل 2023 والاتهامات التي تم توجيهها لطرفي الحرب، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان تصل في بعض الحالات إلى حد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، عاد الحديث من الجديد عن العدالة الانتقالية ودورها المحوري في تشكيل مستقبل السودان وعلى كافة المستويات القانونية والاجتماعية والسياسية.
صحيح أن هناك اتفاق تام بين مجموعات واسعة من السودانيين بأن الإفلات من العقاب الذي لازم تاريخ السودان الحديث ومنذ الاستقلال هو سبب رئيسي في تكرار ارتكاب الانتهاكات والجرائم، لكن هناك الكثير من التساؤلات التي يطرحها السودانيون حول ما إذا كانت العدالة الانتقالية تمثل إجابة شافية لتجاوز جراحات الماضي والمضي قدما نحو المستقبل، أم أنها قد تمثل مخرجا قانونيا للإفلات من القصاص على الجرائم والانتهاكات المرتكبة في حق السودانيين والسودانيات.
استضاف برنامج ملفات سودانية الدكتور محمد عبد السلام، أستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان وعميد كلية القانون السابق في جامعة للخرطوم، ليجيب على الأسئلة التي طرحها مستمعو راديو دبنقا ومتابعيها على وسائط التواصل الاجتماعي عبر رسائل صوتية ومكتوبة. وتذاع حلقة برنامج ملفات سودانية يوم السبت 13 يوليو 2024.
العدالة الانتقالية لمواجهة جرائم الدكتاتورية والحروب
وشدد الدكتور محمد عبد السلام على أن العدالة الانتقالية من المسائل المهمة والملحة الواجب تطبيقها في السودان في مرحلة ما بعد الحرب التي يجب أن تتوقف في وقت قريب. وأشار إلى أن منظومة العدالة الانتقالية بدأت في الفترات التي تشهد انتهاكات كبيرة وواسعة في بعض المجتمعات. وبالتالي هي كمنظومة للعدالة تتعامل مع انتهاكات كبيرة وواسعة لا يستطيع النظام القضائي العادي التعامل معها (المحاكم العادية وأجهزة النيابة وأجهزة الشرطة) بشكل عادي.
ومضى عميد كلية القانون السابق بجامعة الخرطوم في حديثه لراديو دبنقا قائلا إن المجتمعات التي تشهد هذه الانتهاكات تعاني من أحد شيئين أساسيين، إما أنها تعاني من الدكتاتورية وأن هناك نظام عسكري جاثم على صدر المواطنين وبالتالي يرتكب انتهاكات كبيرة وواسعة، مثل التعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء وحجر حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية الحركة والحريات الدينية. أو أنها مجتمعات خارجة من النزاع المسلح وان هذه النزاعات شهدت ارتكاب جرائم كبيرة مثل جريمة الإبادة الجماعية كما حدث عندنا في السودان في إقليم دارفور في العام 2003 وجرائم الحرب التي تم ارتكابها في حرب جنوب السودان منذ 1983 وحتى العام 2005 وكذلك الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق حيث ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية.
تنوع نماذج العدالة الانتقالية
ونوه الدكتور محمد عبد السلام إلى أن السودان شهد هذين النوعين من الجرائم، جرائم الدكتاتورية على مدى 30 عام من حكم الإنقاذ، وبجانبها الانتهاكات التي تمت في إطار الحرب. وبالتالي العدالة الانتقالية تكون مرتبطة بمرحلة الانتقال في المجتمع من الدكتاتورية أو النزاع المسلح إلى واقع جديد. هذا الواقع الجديد لابد أن يتم التعامل معه بمنظومات قانونية وحقوقية قادرة على التعامل مع كل هذه الانتهاكات بما يسمح للمجتمع بتجاوز هذا الإرث من الانتهاكات والانتقال لوضع جديد.
محاكم خاصة
وقال الدكتور محمد عبد السلام في حديثه لبرنامج ملفات سودانية الذي يذاع يوم السبت 13 يوليو 2024 أن إنفاذ العدالة الانتقالية يتطلب إنجاز “تصميم” قانوني وخارطة لإنجازها. وضرب مثلا بالمحاكمات التي تتطلب تشكيل محاكم خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب والأشخاص الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية وهي واحدة من صيغ إنفاذ العدالة الانتقالية. وتشكل هذه المحاكم الخاصة وفق قانون خاص ويمكن أن تكون محاكم وطنية تشكل بموجب قانون السلطة القضائية للعام 1986، على سبيل يقوم رئيس القضاء “المستقل” بتشكيل محكمة خاصة لمحاكمة الجرائم التي تم ارتكابها في غرب دارفور في بداية الحرب الحالية ويتطلب ذلك تعيين قضاة مستقلين ونيابة مستقلة ونظام لحماية الشهود والضحايا حتى يستطيعوا الوصول إلى هذه المحاكم.
تعويض الأضرار
وأضاف عميد كلية القانون السابق أن هناك قوانين أخرى تقوم بإعدادها لجنة الأضرار، حيث فقد الناس خلال الحرب الحالية ممتلكاتهم وبيوتهم وأهلهم، مثلما فقدوا حقهم في العيش الكريم في إطار انتهاكات كبيرة، لذا من الضرورة وضع برنامج للتعويضات يجيب على عدد من الأسئلة من بينها هل سيتم تعويض أي شخص منفرد أو أن التعويضات ستكون جماعية كل ذلك يستدعي تشكيل مفوضية للتعويضات.
الحقيقة والمناصحة
وأشار الدكتور محمد عبد السلام في حديث لراديو دبنقا إلى أن هناك نماذج أخرى للعدالة الانتقالية مثل نظام للحقيقة والمناصحة وبمفوضية لديها إطار قانوني واضح لكشف الحقيقة. هذه المفوضية لا بد أن تكون مستقلة وأن يعمل فيها أشخاص مستقلين ويركز دورها على الكشف عن الانتهاكات التي ارتكبت في الحقبة الزمنية المحددة. إذا أخذنا نظام الإنقاذ كمثال، نجد أنه مارس جريمة التعذيب في حق المعتقلين. يتطلب الأمر هنا كشف الوثائق الموجودة لدى جهاز الأمن والأجهزة الحكومية الأخرى، كشف القبور حيث تم دفن الكثيرين دون أن تعرف أسرهم مكان قبورهم مثل شهداء 28 رمضان وشهداء العيلفون وشهداء دارفور.
وأضاف أن الكشف عن القبور يشمل من قتلوا في الحرب ولا تعرف أماكن دفنهم وكذلك يشمل المختفين الذين لا يعرف مكان تواجدهم. ويجب أن يكون هناك التزام بأن تعمل المفوضية بشكل فعال وشكل مستقل. لكن من المهم هنا أن نكرر أنه لا يمكن انفاذ العدالة الانتقالية إلا إذا حدث انتقال في المجتمع.