الديسمبريون، جدلية السلمية والعنف

في الأيام الماضيات واجهت الثورة والديسمبريين عنف غير مسبوق وبلغ حد إستعمال الدوشكا وهي في الأصل سلاح مضاد للطيران تم تعديله ليستخدم في حروب المشاة والديسمبريين ليسوا بمشاة بل رأيتهم الباذخة هي السلمية ويواجهون هذه الأسلحة الفتاكة بصدور عارية وهذا تطور غير مسبوق يطرحُ في داخل قوى الثورة أسئلة تدور حول جدل السلمية والعنف، وحول العنف والعنف المضاد، والدفاع عن النفس وعن الثورة وهي أسئلة يتصاعد دخانها بأعلى من دخان القنابل المسيلة للدموع وهذه المقالة موجهة إلى الديسمبريين في بحر تبادل الخبرات والحوار من أجل انتصار الثورة الذي يرى بالعين المجردة والمقالة منحازة للسلمية وضرورة تعميقها كرد وحيد وأداة رئيسية لهزيمة عنف الانقلاب.

ياسر عرمان

 

بقلم :  ياسر عرمان

 

في الأيام الماضيات واجهت الثورة والديسمبريين عنف غير مسبوق وبلغ حد إستعمال الدوشكا وهي في الأصل سلاح مضاد للطيران تم تعديله ليستخدم في حروب المشاة والديسمبريين ليسوا بمشاة بل رأيتهم الباذخة هي السلمية ويواجهون هذه الأسلحة الفتاكة بصدور عارية وهذا تطور غير مسبوق يطرحُ في داخل قوى الثورة أسئلة تدور حول جدل السلمية والعنف، وحول العنف والعنف المضاد، والدفاع عن النفس وعن الثورة وهي أسئلة يتصاعد دخانها بأعلى من دخان القنابل المسيلة للدموع وهذه المقالة موجهة إلى الديسمبريين في بحر تبادل الخبرات والحوار من أجل انتصار الثورة الذي يرى بالعين المجردة والمقالة منحازة للسلمية وضرورة تعميقها كرد وحيد وأداة رئيسية لهزيمة عنف الانقلاب.

( 2 )

اللاعنف واللاسلاح هو السلاح الذي يخدم الثورة! ومع تزايد عنف الدولة فإن سلمية الثورة تصبح مدار تساؤل من قوى تشارك وتقدم تضحيات في الثورة، وتساؤل آخر مصنوع ومزايدة من قوى تريد جر الثورة إلى العنف للقضاء عليها من حيث لا تحتسب وتتحسب.
لان الثورة خرافة التاريخ البديعة والملهمة للتطور الإنساني فإن روبسببير احد قادة الثورة الفرنسية الكبار كان لا ينام إلا متوسدا كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو والذي يشكل بداية التأسيس لمبادئ الحقوق السياسية الإنسانية وسيادة الانسان، ولقد كان روبيسبير الذي اصبح لاحقا زعيم جماعة النادي اليعقوبي ورئيس لجنة السلامة العامة في الثورة الفرنسية التي أعدمت حوالي (17) الف مِن مَن أعتقد انهم معادين للثورة وكان مهتما بانتصار الثورة مما خلق له أعداء كثر لفو في نهاية المطاف الحبل حول رقبته فالثورات تهدد المصالح الإجتماعية القديمة وتبني نظم اجتماعية جديدة ولو بعد حين ولقد غير الديسمبريون السودان إلى الأبد.

( 3 )

السلمية سلاحها هو الجماهير ونارها وبريقها مصنوع من ملايين الحناجر والافئدة والقلوب المؤمنة المدفوعة بالعاطفة والعقل المشرئبة إلى المجد، وهي في خاتمة المطاف ستجبر أقسام من القوات النظامية على الانحياز ومخالفة قادتهم والخير فيما تختاره الجماهير دوما.

الثورة جميلة والله أجمل وهو يحب الجمال وارادة الفقراء والمهمشين وشوقهم للعدل من إرادة السماء، والثورة تنثر بذور جديدة وتمهد الحقول.
الثورة تعيد تركيب الأشياء وتهندس المستقبل وتعيد رسم العلاقات الجديدة بين القوميات والإثنيات والثقافات والاقتصاد وأجهزة الدولة وتعيد رسم الدول والمجتمعات، ففرنسا أشهر معالمها الثورة الفرنسية قبل برج إيفل، والثورة تعيد وصل ما انقطع من حديث في هذه البلاد وتعيد الحوار مع الجنوب فلقد غاب الجنوب حينما غاب المشروع الذي تطرحه الثورة.

إن الدماء التي اعادت إيماننا بالوطن بعد أن كفر به بعضنا عند سنوات عجاف ترسم المستقبل أيضا ولأول مره قد أصبح لعلم السودان قيمة وسعر ويباع في الطرقات على المارة بعد أن كان وحيدا وحزينا لا يحفل به أحد وقذف به رئيس الدولة المخلوع وهو يستعد للادلاء بحديثة بإعلان الطوارئ.

( 4 )

توصلت القوى الديمقراطية منذ أكتوبر 1964م إلى أهمية انحياز أقسام حاسمة من القوى الوطنية بالقوات المسلحة لضمان نجاح الثورة كما توصلت لاحقا قبيل أبريل 1985م بأن السلاح في يد القوى الوطنية داخل القوات المسلحة ربما غير كاف لحسم المعركة إلى جانب الثورة وطرحت القوى الوطنية في تجربة التجمع الوطني الديمقراطي (الإنتفاضة المحمية) كما أنشئت قوى حزبية وطنية أجنحة مسلحة إلى جانب الحركة الشعبية في شرق السودان ودار حوار طويل حول أي الطرق ستؤدي إلى إنتصار الثورة وطرح لاحقا أن حزبنة القوات النظامية ستمنع قيام الثورة كل هذا النقاش تم حسمة من جانب الديسمبريين الذين انتصروا في أبريل 2019م وخلفهم (30) عاما من تراكم التضحيات بمختلف الأدوات والوسائل ولكن العمل السلمي كان حاسما..

إن ثورة ديسمبر الحقيقية نمت وترعرعت في مختبر الاعتصام وشبت عن الطوق بعد فض الاعتصام.

( 5 )

قضية السلمية والعنف تلك القضية القديمة المتجددة تطل برأسها من جديد في دفاتر الديسمبريين وفي اجندتهم وبدأت دعوات خافته إلى استخدام السلاح أمام عنف الدولة المتصاعد تعلو وتهبط وهذه الدعوات تحتاج إلى مناقشة موضوعية حتى لا تنجر الحركة الجماهيرية إلى عنف الدولة وتستخدم سلاحها بعنف مضاد وتهجر منعتها وسلاحها المجرب في السلمية وتحصد قمحا سوريا او عراقيا او ليبيا او يمنيا مما يغير محتوى الثورة، وعلينا أن نتفحص نتائج ما جرى في تلك البلدان وثوراتها.

على العكس مما جرى في أكتوبر 1964م وابريل 1985م فأن السودان الان بلاد مسلحة بلا ضفاف، من حركات ومليشيات وقوات نظامية ممزوجة بانتهاكات واسعة لحقوق الانسان والسلاح خارج سيطرة الدولة يمتد من الريف إلى المدن وعلى رأسها العاصمة ولا توجد قيادة وسيطرة مركزية على السلاح المرتبط أيضا بنهب الموارد والحواضن الاثنية وفي مثل هذا المناخ تطل أداة الديسمبريين في السلمية فارعة وعابرة للاثنية والجغرافيا وللريف وللمدن ومثل ما يساهم وسط السودان في الثورة فأن دارفور وشرق السودان قوى عضوية فاعلة في مسرح الثورة السلمي وكافة ارجاء السودان بل ان الهامش والريف ممثلا في الدمازين والقضارف وعطبرة لعب دورا حاسما في تصاعد الثورة وانتصارها.

إن عظمة ثورة ديسمبر تكمن في ان حمضها النووي مأخوذ من اتساع أرجاء البلاد وهو يصلح لاساس لمشروع وطني للمواطنة والديمقراطية والتنمية وبناء سودان جديد.

( 6 )

العمل المسلح في أوجهه التقليدية وسنوات ازدهاره في القرن الماضي الذي تصدرته حركات التحرر الوطني لم ينتج نظاما ديمقراطيا في أهم وأعظم تجاربه في أنغولا وموزنبيق وزيمبابوي واثيوبيا واريتريا وجنوب السودان ورواندا ويوغندا والجزائر وظلت معضلة حركات الكفاح المسلح في السودان بأنها شديدة الاهتمام والانتباه بقضايا المواطنة والسلطة والثروة في اغفالا لا تخطئه العين لقضية الديمقراطية والعمل المسلح مرتبط في معظم تجاربه بصعود قوى اجتماعية محدودة إلى دست الحكم تتنازل عن شعاراتها الأولى وتتحكم في مجتمعاتها بقوة السلاح وتموت مشاريع الكفاح المسلح الثورية عند منزلقات السلطة والثروة ومياهها الآسنة.

كذلك في أن القوى المدنية في السودان وأحزابها قليلة الحساسية وضعيفة الكسب حينما يتعلق الأمر بقضية المواطنة بلا تمييز فهي في الغالب أيضا تأخذ قضية الديمقراطية بمعزلٍ عن قضية المواطنة ومشروع البناء الوطني.

طرح على دفاتر الثورة قضية حماية الثورة بالسلاح وهي قضية في الغالب ان نجحت ستكرر تجارب الجناح المسلح لحركات التحرر الوطني التي تنتهي مشاريعها عند سيطرة المسلحين على السلطة وهزيمتهم لحكومة الأمر الواقع وهي قضية شائكة منذ أن طرح سؤالها في كميونة باريس حتى يومنا الراهن وظل هذا السؤال يعلو ويهبط في ارتباط بمشروع الثورة وانتقال السلطة ومشاركة الملايين من الجماهير واحتياجها للسلاح لحسم قضية انتقال السلطة ولا إجابات حاسمة حتى اليوم الا ان الأقسام المسلحة من الثوريين لم تلتزم في معظم الأحوال بالمشاريع الثورية التي طرحتها للجماهير.

( 7 )

إن أفضل الخيارات في اعتقادي المطروحة الآن هي تكمن في حشد مزيد من الجماهير لقل يد عنف الدولة والملايين بسلميتها هي التي ستكسر عنف الدولة وتجبر أقسام واسعة من القوات النظامية للانحياز لرغبة الشعب وستتصاعد التناقضات داخل القوات النظامية فى الضغط عليها للانحياز والوصول إلى تسوية مع الجماهير فالقوات النظامية مخلوقة ومصنوعة من صلب الجماهير رغم ان بعض قياداتها ذوي اطماع ومصالح ومخاوف ولكن جسمها الصلب يمشي في الأسواق ويعاني مع الجماهير ويسكن الأحياء الشعبية وذو قربى ونسب بالشهداء والجرحى ولقد رأينا بعضهم في تشييع بعض جثامين الشهداء.

ديسمبر أوسع واعمق من سماكة جلد القوات النظامية وحينما تهتز الشوارع بأصوات الديسمبريين ستتجاوب القوات النظامية على نحو تكتيكي او استراتيجي واللاعنف والسلمية هي سلاح الجماهير ألأمضي وبمفارقتها ستسمح الحركة الجماهيرية لنفسها في تعيين مصفي يعمل على تصفية ثورة الشعب واغراقها في بحر من الدماء وهيهات.

( 8 )

ان المشاركة الواسعة للجماهير والتضامن والمصالح الإقليمية والدولية هي الصيغة الأفضل للوصول لديمقراطية مسنودة بسلمية الثورة ومشاركة الملايين ان العنف وإدخال السلاح بدلا من السلمية سيؤدي إلى تراجع المشاركة الواسعة للجماهير وهي زاد المستقبل وفي بحر من العنف سقطت الثورة السورية فلنتمسك بسلمية الثورة وبمداواة الجراح بمزيد من السلمية وبمزيد من نهوض الجماهير.
في اعتقادي وآخذا من تجربتي لنحو 36 عاما في العمل المسلح فأن السلمية هي السلاح والأداة لبناء مجتمع ديمقراطي وسودان جديد، سودان الجماهير والنساء والمهمشين على الرغم من تعقيدات الوضع داخل القوات النظامية ووجود أكثر من جيش وانتشار الحروب والسلاح فأن شعبنا بسلمية ثورته سيصل إلى مرا فيء الحرية والسلام والعدالة بفضل من تضحيات الديسمبريين.

Welcome

Install
×