الدكتور حسين ادم الحاج يكتب : دارفور … والعودة للمستقبل: ضرورة إستشراف حلول للأزمة !!

ليس من السهل التنبؤ بمآلات الأوضاع فى دارفور خاصة فى مديات المستقبل القريب والوسيط فحالتا السيولة والتوهان اللتان تكتنفان مجمل مسارات الأحداث وتقلباتها اليوميّة فى عرض الأقليم وطوله لا توفران معطيات معقولة لإستبيان ما يمكن أن يحدث حتى فى غدٍ أو بعد غدٍ ولعلّ هذا هو السبب الأساس فى عدم قدرة المحللين وراسمى السياسات (policies)إستنباط رؤى واقعيّة وممكنة التنفيذ يمكن البناء عليها والترادف حولها لتحديد إتجاه بوصلة المستقبل وإبتكار حلول (ذكيّة) لإنتشال الإقليم وأهله مما يرزحون فيه من إشكالات فوق طاقة التخيّل.

الدكتور حسين ادم الحاج

 

ليس من السهل التنبؤ بمآلات الأوضاع فى دارفور خاصة فى مديات المستقبل القريب والوسيط فحالتا السيولة والتوهان اللتان تكتنفان مجمل مسارات الأحداث وتقلباتها اليوميّة فى عرض الأقليم وطوله لا توفران معطيات معقولة لإستبيان ما يمكن أن يحدث حتى فى غدٍ أو بعد غدٍ ولعلّ هذا هو السبب الأساس فى عدم قدرة المحللين وراسمى السياسات (policies)إستنباط رؤى واقعيّة وممكنة التنفيذ يمكن البناء عليها والترادف حولها لتحديد إتجاه بوصلة المستقبل وإبتكار حلول (ذكيّة) لإنتشال الإقليم وأهله مما يرزحون فيه من إشكالات فوق طاقة التخيّل.

فى مثل هذه الأجواء تنداح عبارة (المستحيل) لتفرض نفسها وتعرقل أى خطوة لإجتراح أو تجريب إيّما محاولة لفتح آفاق الأمل لإنتشال المأساة من وهدتها وهنا تتجلى مظاهر الإحباط التى تصيب الأطراف الفاعلة نتيجة الشعور بحتميّة فشل مبكر لأى تحرك، وقبل حتى أن تبدأ،لمجابهة الأزمة، ويحدث هذا كنتاج للإرهاق وهزيمة الذات وإنعدام الثقة فى النجاح وتضاؤل الهمة فى التقدم للأمام، ويفسر علماء النفس هذه الظاهرة بأنّ الفشل فى مثل هذه الحالات يحدث ليس بسبب قصور فى الأداء أو عدم المقدرة عليه وإنّما بسبب الشعور التلقائى والمسبق بالعجز وإلتباس الإحساس بعدم القدرة على المضى قدماً بجانب قصر النفس وضبابيّة الرؤى وتعقيدات القضايا الشائكة وضمور القدرات وهذا هو حال الشكوك السالبة التى تكتنف ومنذ سنوات كلّ الأطراف التى تتجاذب قضيّة الإقليم سواء المحليّة منها أو الوطنيّة أو الإقليميّة أو العالميّة وتفسر حالة الرهق والإرهاق اللتان تعتريها مع مظاهر تراجعاتها الوتيرة وشعورها باليأس من إمكانيّة أى إصلاح ممكن ناهيك عن القيام بتقديم مبادرات جادة وصلبة لترسيخ حلول فاعلة وناجعة وفرضها على كل أطراف الصراع من أجل الضحايا من النازحين واللاجئين الذين يعيشون فى كنف الله وحده وهو أدرى بحالهم ومصيرهم، نتيجة لذلك صارت دارفور ومشكلتها اليوم كاليتيم فى مائدة اللا إهتمام ودون راع بصير، حتى من بنيها وقادتها المفترضين، نتج عنها تقلص الإهتمام العالمى وعجز القوى الوطنيّة لتدارك إنهيار حتمى وهو ما حدث ويحدث حقيقة.

بدلاً عن مواصلة الدوران فى حلقة مفرغة لا بدايّة لها أو نهايّة ومحاولة مضغ مبادرات ومقترحات حلول تنتهى قبل أن تبدأ فقد بدا أنّ هناك سياسة قد تبلورت منذ وقت، لكنها ليست متفق عليها أو معلنة من أى جهة، تفترض ترك الأمور تمضى مشاويرها لمستقر لها بأقل الخسائر الممكنة بحيث تفنى القضيّة ذاتها بذاتها وتنعدم بمرور الزمن بحجة أنّ أيّة محاولة للحل حتى ولو كانت جادة قد تكتنفها الشعور المسبق بالفشل، ولذلك فقد إنبنت هذه السياسة على فرضيّة ترك المأساة تهزم نفسها بنفسها نتيجة لإنعدام المخارج الممكنة بسبب قصور فى المعطيّات الإيجابيّة لخلق أجواء أفضل بجانب عوامل أخرى مثل ضعف القدرات الذاتيّة وغياب الإرادة الحقيقيّة وإلتباس الرؤى الهاديّة وتضاؤل الهمم الدافعة وإنعدام التمويل الضامن أو كل ذلك وأكثر مع تجاهل تام لحقوق الضحايا وتحقيق العدالة.

إن صحت هذه الفرضيّة ولتجنب جهود قد يكون محكوم عليها بالفشل وخلق مزيد من الإحباط فقد يكون بديلاً عن ذلك التفكير فى ما يمكن ترتيبه من برامج ومخارج يمكن تطبيقه فى آفاق المستقبل كمعادل للإنكفاء على الماضى وتجرع مضاضة الحاضر،، بعبارة أخرى إذا إستحال الولوج إلى قلب الأزمة الناشبة فى ربوع الإقليم، لحيثيات معلومة، للبحث عن حلول ممكنة وناجعة لمجمل مظاهر الكارثة، وهذا مقتضى الحال الآن، فلماذا لا تتحول الجهود للتركيز على إعادة تحليل مجمل الأوضاع بغرض ترتيب خطط وتصميم معالجات يمكن تنفيذها مستقبلاً عبر مراحل مبرمجة ومتدرجة، لكنها متلازمة، عندما تواتى الظروف المناسبة لذلك؟؟

مثل هذه السياسة باتت تمثل جزءاً من عقيدة عالميّة غير متفق عليها بالضرورة لكنّها واقعيّة من حيث تبنيها بواسطة القوى الإقليميّة والعالميّة فى التعامل مع النزاعات المستعصيّة التى تنشأ نتيجة متناقضات متعددة لا يمكن الجمع بينها فى وعاء حل واحد ولعلّ هذا ما قصده الدكتور هنرى كيسنجر مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق بإبتكاره مبدأ "الخطوة خطوة"لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وقد رسّخ كيسنجر مبدأه ذاك بحيث تبلور فى شكل نهج عالمى بخصوص حلّ النزاعات المستعصيّة التى ترهق القوى العالميّة ولا تجد لها حلولاً ناجزة فتتركها لعوامل الزمن لحين تواتى ظروف مناسبة بجانب الطرق المستمر عليها إلى حين إتفاق أطرافها عن رغبتهم فى تجاوز الخلاف عبر مسارات ذات حلول متدرجة مع تأثير الزمن، ولعلنا قد خبرنا ذلك فى السودان من خلال إتفاقيّة السلام الشامل لجنوب السودان كما خبرناه أيضاً فى إنهاء نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا ونعيشه الآن عن النزاع المستعر فى جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة والنزاع الدائر فى الصحراء الغربيّة وطالت حتى الحركات الإنفصاليّة فى أوروبا فى أسكتلندة وإسبانيا وكذلك فى كندا حيث قررت القوى القطريّة أو الدوليّة تركها لعوامل الزمن لتنفيسها من الإحتقان بهدف حل نفسها بنفسها مع ضخ مبادرات متفرقة بين الحين والآخر تدعم سياسة الخطوة خطوة المرحليّة وتحرك الأمور ليس إلاّنحو حل نهائى مفترض. للأسف هذا النهج لم ينجح حتى الآن فى تحقيق نتائج حاسمة مقبولة لأطراف بعض النزاعات المتفجرة لكن نتيجة للرهق الذى يصيب المجتمع الدولى فى محاولاته هذه تدفعها لتبنى مبدأ هنرى كيسنجر كمخرج وحيد رغم ما يحيط به من شكوك وهذا هو عين الشأن مع قضيّة دارفور اليوم.

إنّ مسألة معقدة كالأوضاع السائدة فى دارفور وطبيعة تناقضاتها لا يمكن حلّها ضربة لازب بل عبر إستراتيجيّة متكاملة مرنة ومبرمجة تُعنى بكل التناقضات على أرض الواقع وتنبنى أساساً على ترتيب الأولويّات وتصميم المراحل والمسارات والنظرة الشموليّة لكل مكونات الإقليم الإجتماعيّة وهذه بالضرورة بحاجة إلى تطوير وعاء فكرى ثقافى إجتماعى تاريخى، كحاضن لهذه الجهود،تمثل الرؤيّة الكليّة للحل(vision) وتهدف فى جوهرها إلى تعزيز فكرة أنّ أهل الدار هم الأولى بالتصدى لحل مشاكلهم وخلافاتهم فى إطار البيت الواحد والأسرة الواحدة تقوم على حقيقة أنّ أيّة أسرة لا ترضى بالنشاز فى تكوينها وعلاقاتها الداخليّة، للأسف لا ولم توجد إستراتيجيّة معلومة لذلك حتى اليوم بل ومنذ بدايّة الأزمة !!

إستشراف المستقبل ورصد التوقعات تمثل ركيزة أساسيّة فى محيط الدراسات الإستراتيجيّة وبرامج التنبؤ وهى لا تتم إلا بعد تحليلات عميقة ودراسات واسعة للحال المراد التصدى له وتصور مستقبل تطوراته وتتراوح ذلك ما بين الآنى والمرحلى والجزئى والكلى والتكتيكى والإستراتيجى والمهم فالأهم وهذا النهج متبع فى الدول المتقدمة حيث تنعدم سياسة رزق اليوم باليوم فى تسيير شؤونها خاصة المصيريّة منها بل هى تخطط وتعرف مسبقاً ما تود فعله فى المستقبل القريب والبعيد ثمّ ترصد الأمكانات المطلوبة وتوفر القدرات البشريّة والأموال اللازمة لتنفيذ ذلك حينما يحين الأوان، إذاً برمجة المستقبل صارت أحدى الأسس الراسخة فى سياسات الدول المتقدمة تهم كل أطراف مكوناتها السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة ولعلّ ذلك يمثل سر تطورها وتسيّدها على العالم.

فيما يلى دارفور فنحن في حاجة إلى النظر إلى المستقبل بطريقة عمليّة وإستراتيجيّة، وقد أشار الكاتب الجزائرى البروفسير سليم قلالة مؤخراً فى عموده الراتب بصحيفة الشروق الجزائريّة بعنوان "نظرة إستشرافيّة من أجل الجزائر" إلى أنّه:يتفق الإستشرافيون علىأنّ النظر إلى المستقبل يتطلب خمس عناصر تشمل النظرة البعيدة، النظرة الواسعة، التحليل العميق، التكفل بالمخاطر والتفكير في الإنسان، وأضاف أنّ آخرين أضافوا لهذه النقاط الخمس نقطة سادسة تتعلق بمسألة النظر بطريقة أخرى للواقع الذي نعيش وعلّق البروفسير قلالة على ذلك بتأكيده إنّ هذه النقطة الأخيرة،أى (النظر بطريقة أخرى للواقع الذي نعيش)، هي التي ينبغي أن نعجل النظر من خلالها اليوم، على هذا الأساس ينبغي علينا أن نُقيِّم نظرتنا المستقبليّة بشأن دارفور ليس فقط على أساس ما تتطلبه التوازنات السياسيّة أو الاقتصاديّة أو ضغوط الأفراد والمجموعات المختلفة ومطامع الإنتهازيين وغيرها من العوامل الطارئة والثابتة،والتي بالطبع ينبغي أخذها بعين الاعتبار، بل على أساس الإنسان كمحور أساسى وقاعدى فى عمليّة الحل والعقد، ودعنى أقتبس تساؤلات أوردها البروفسير قلالة فى مقاله تلك وأعكسها على مستقبل دارفور وأتساءل عن أيّة مكانة ننشد لمستقبل الإنسان في دارفور؟ كيف نعيد له كرامته وعزته ودوره التاريخى في المجتمع؟ وكيف نمكنّه من أن يشعر بأنه هو محور وغايّة كافة السياسات التى تستهدفه، مهما كان وضعه الإجتماعي ومهما كانت الفئة التي ينتمي إليها؟ وكيف نجعله محور وهدف التنميّة المستدامة؟ إنّ هذا البعد الذي يعيد الاعتبار للإنسان وقيمته فى دارفور ضمن النظرة المستقبليّة البعيدة والواسعة، هو القادر وحده، على جعل كافة الإشارات المنذرة بالخطر اليوم تتحول إلى إشارات حاملة لمستقبل واعد!! هل نتمكن من ذلك؟ هل نقوم بذلك؟ ينبغي أن نفعل ذلك قبل فوات الأوان كما ختم البروفسير مقاله.

هذه هى الأسئلة الحرجة التى تمثل لبّ مقالنا هذا ومحور تفكيرنا إذ كيف نخطط لمستقبل دارفور إنطلاقاً من كافة الإشارات المنذرة بالخطر اليوم خاصة وأنّها لم تبدأ فى القريب بل جذورها ضاربة فى العمق؟وطالما وصلت الأمور فى الإقليم إلى هذه الدرجة من البؤس فإنّ المطلوب ليس إعادته سيرته الأولى دون وجود حتى إستراتيجيّة معلومة حول كيفيّة ذلك بل لا بد من إعادة بنائه على أسس جديدة ونهج مستدام يستهدف الإنسان والمجتمع أولاً عبر مبادرات مستقبليّة ذكيّة تستهدف تنقيّة دخاخين التنافر والخلافات التى إنبعثت من العدم وإمتدت ألسنة لهبها لتسبب كل هذه المآسى.لكن يتطلب ذلك قيام نفرة لبناء جبهات عريضة للإصلاح الإجتماعى فى طول وعرض الإقليم تضم كل الشرائح الإجتماعيّة الهاديّة تساهم فى قيادة مجتمع دارفور إلى آفاق أرحب من الوعى الإجتماعى المستند على التعايش السلمى والتماسك المجتمعى والوئام الإجتماعى المستدام.

إنّ وقف المناوشات حالياً بين الحكومة والحركات المسلحة وهدؤ الأحوال على ربوع الإقليم فى الفترة الأخيرة كما يصرح به ولاة الولايات وغيرهم لا تعنى بالضرورة أكثر من ضربة البدايّة لتلمس مكامن الأزمة والتبصر فى الحلول هذا إذا أمكن تطوير هدؤ الأحوال تلك إلى سلام مستدام إذ بغير ذلك لا تكون تلك التصريحات سوى أضغاث أحلام للإستهلاك السياسى، وحتى مع هذا الهدوء اللحظى فإنّ الصراع البينى بين القبائل الرعويّة يجب الإنتباه لها وإدراجها فى صلب إستراتيجيّة الحلول فقد تكون أشد كارثيّة من الصراعات الأفقيّة الماضيّة.

إذاً لمجابهة الأزمة فى دارفور فإنّ هنالك حاجة ماسّة وعاجلة لقيام جبهات للإصلاح والتخطيط الإجتماعى الهادف تضم كل السودانيين وبالأخص أبناء الإقليم الحادبين على مستقبله للتصدى لردم الأخاديد التى شققت وحدة الإهالى وترميم الشروخ التى عصفت بمجتمعه على المستويين الأفقى المتمثل فى البعد الجغرافى بين القبائل والكيانات المختلفة وعلى المستوى الرأسى داخل القبيلة الواحدة حيث تحولت لغة الجوديّة والمصالح إلى لعلعة السلاح وإستهداف حياة الآخر والإعتداءات الآثمة وليس من سبيل فى مثل هذه الأجواء طرح مفردات ومبادرات فطيرة كما يحدث الآن ومنذ بدايّة الكارثة فهى لا تعنى الكثير للضحايا ومن المستحيل تنفيذها دون إعتبار لأسس الأمن والسلم الإجتماعى، إذاً المطلوب العاجل الآن هو وقف هذا الغلو فى النزاعات وحفظ الانفس وترسيخ الوئام الإجتماعى وإستعادة روح وعقل الأسرة الواحدة التى تتهافت لإصلاح ما إنكسر من أركان البيت وهذا دور الإصلاحيين ومهندسى المجتمع بدعم مختلف الملتفين حول قضية الإقليم.

بالنسبة للحكومة يجب عليها ضرورة مراجعة سياساتها الكليّة تجاه الأزمة خاصة وأنّ السيّد رئيس الجمهوريّة سيبدأ فترة جديدة تكون هى الأخيرة فى عهد حكمه للبلاد ولابد أنّه يدرك ضرورة ترك بصمته الشخصيّة (legacy) على سجل التاريخ وقضيّة دارفور هى اليوم أمّ القضايا تستدعى منه التحرك فوراً بعد أدائه القسم لعهد جديد ووضع برنامج المائة اليوم، مثلما يفعل الرؤساء المنتخبين فى أمريكا، للتصدى لهذه المعضلة التى إستهلكت البلاد والعباد وسينجح فى ذلك إن أفلح فى مراجعة السياسات السابقة ونظر للمشكلة نظرة جديدة تتجاوز ما تعارف عليه منذ نشوب الأزمة وهو قادر على ذلك إذا أحسن الإختيار ووظّف إمكانات الدولة وقدراتها المختلفة بطريقة فاعلة.

ربّما تكون الأمور قد إستكانت بعض الشيئ اليومفى ربوع الإقليم لكن ذلك وبدرجة كبيرة بسبب الخدر والتخدير الذى سرى فى أجساد الجميع حكاماً ومحكومين بفعل العجز وعدم القدرة على التعبير والتخيل لكن عندما يرنو أنظار الناس إلى أفق المستقبل بحثاً عن حلول لإشكالاتهم لا يلمحون أملاً تخرجهم من حالهم غير المزيد من الإحباط بينما المعنيون المناط بهم مساعدتهم إنبروا فى غىّ يعمهون تركوا الفرائض للنوافل والأهم للصغائر والأولويّات للنواقص وفى هذه الأجواء ضاعت القضيّة وغابت الرؤى فإنصرف الجميع للبحث عن ميادين جديدة لمواصلة الرقص على هموم الضحايا دون أن يوضحوا لهم ماذا فعلوا سابقاً وماذا سيفعلون الآن والمستقبل وهم يلبسون طواقى جديدة لكن لا إجابة لهم !! حقيقةً ينتابنى شعور عمّا إذا كان هؤلاء الإخوة يدركون، أو هم قد أدركوا، حجم المأساة التى تصدوا لمعالجتها، لقد فعلوا ذلك ربّما بحماس لكن بزاد قليل وبصيرة ناقصة،، لقد تورطوا وأدخلوا دارفور فى ورطة تحتاج لمعجزة لتجاوزها فى زمن غابت فيه ظاهرة المعجزات.

إنّ الركيزة الإستراتيجيّة فى معالجة الأزمة بدارفور لا ترتكز على النصائح الشفويّة والمناشدات والوعظ الدينى وحلقات الجوديّة الغير مجديّة، مع أنّها مطلوبة ولكن فى حالات أخرى وأجواء مغايرة للآنى، وإنّما يجب أن تستهدف جذور الأزمة ومنابع الخلاف والقلق على المصير وقضايا المستقبل بجانب ملاحظة وتقدير درجة وعى الناس بحقوقهم وتطلعاتهم للحياة بصورة أفضل خاصة وأنّهم قد خرجوا من قراهم ودياجيرهم وبواديهم ونزلوا من جبالهم وإحتكوا ببعضهم وبالعالم والمنظمات الدوليّة ووكالات الإغاثة وتحدثوا لمنابر الإعلام العالميّة فإزدادوا وعياً وإمتلكوا ناصيّة التعبير عن أنفسهم وقضاياهم دونما حاجة لوسطاء وبالتالى فهم لن يخسروا أكثر مما خسروه من حياتهم وأرواحهم إذا ما طالبوا بحقوقهم بالكيفيّة المتاح لهم، ملاحظة هذه النقاط وإدراجها فى صلب المبادرات المختلفة تكون حاسمة لتهيئة أرضيّة صالحة للبناء ضمن حلول ومقترحات إستراتيجيّة للمستقبل بل لعلّها الجوانب التى أخفقت فيها كل الجهود التى تصدت لمعالجة الأزمة ملاحظتها أو تقديرها بحق، بإختصار هذا يعيدنا للتبصر مرة أخرى فى تعليق البروفسير قلالة بوجوب "النظر بطريقة أخرى للواقع الذي نعيش"، أى أخذ الإنسان وقيمته وتطلعه بعين الإعتبار.

بمعنى آخر، إنّ الوعى الذى ساد مجتمع دارفور خلال العقد المنصرم قد يتطلب مدى نصف قرن من الزمان وربّما أكثر فى الأحوال العاديّة كى يصل الناس إلى مستوى فهمهم اليوم لأنفسهم وواقعهم وتطلعاتهم للمستقبل وهذاتحد بحق يجب التعامل معه بصورة إيجابيّة وتسخيره لمصلحتهم فى ترتيب وتنفيذ الحلول ورسم الأولويات فهنالك تعقيدات فى الأزمة لا يستطيع أحد الإقتراب منها أو حلّها سوى أهل الإقليم أنفسهم وهنا لا ينفع العنف وإقتناء السلاح وفرض الأمر الواقع بل الحوار والتراضى ورد الحقوق والإلتزام بمبادئ المواطنة والعيش معاً دون إنتقاص من حق أحد أو جبره من دون حق،، إضافة إلى ذلك إنّ الجوانب المتمثلة فى النواحى الماديّة وتوفير مقومات الحياة المستدامة تمثل أيضاً أهمّ مفاتيح الحلول وهذا أيضاً من العوامل الحاسمة فإذا إجتمع الناس حول أمر أو مشروع لهم فيه مصلحة للتعاون والإستفادة الشخصيّة فإنّهم سوف ينسون خلافاتهم ويقبلون على العمل سوياً لكن من أجل ذلك يلزم تأطير مشاريع وبرامج متكاملة يستهدف كسر الحاجز النفسى ويخفف من الغبائن وهذا يتطلب تعاون المجتمع بكل قطاعاته وسيكون لمهندسى المجتمع دوراً حاسماً فى ذلك.

بناءاً عليه هناك حاجة اليوم والمستقبل القريب والوسيط فى أن يتداعى أبناء الإقليم وجميع مكونات الشعب السودانى الحيّة لمحاولة جبر ما إنكسر فى مجتمع دارفور وذلك عبر تطوير إستراتيجيّة مرنة وممرحلة تتجاوز المحاولات النمطيّة التى صاحبت محاولات حل الأزمة تعتمد فى الأساس على تحديد الأولويّات وتعدد المسارات، كل قضيّة بحدها، تهدف لتليين المواقف وإشراك كل أهل الإقليم فى تنفيذها.

إنّ المطلوب اليوم مراعاة مجموعة من النقاط ضمن قوس قزح عريض من إمكانيات التخطيط لمجابهة الإشكاليات والإشكالات تنبنى على قاعدة (الأهم فالمهم)، أى التدرج المبرمج حسب أهميّة الأمر وضرورته من الإستراتيجيّات، وتتبصر منهجية الخطوة خطوة المفضيّة إلى تفاهمات مستدامة يمكن تحقيقها فى بحر المستقبل نشير إلى بعضها هنا:

1/ لقد مضى الآن أكثر من عقد من الزمان على الأزمة فى دارفور وقد تعمقت الكثير من القضايا وتفرعت إلى مشكلات متعددة الجذور والفروع والآثار يجب تحديدها بدقة وحصرها بشمول والتعامل مع كل قضيّة فى إطار إستراتيجيّة مرنة متعددة المسارات يمكن تطبيقها بعد تهيئة الأجواء، ونسبة لتعقد القضيّة وتشابكها أجزم أنّه لا توجد اليوم جهة رسميّة فى الدولة يمكن أن تلخص ماهيّة المشكلة وتصنف جذورها بصورة واضحة لتنبنى عليها إستراتيجيات الحلول وفى هذا ينطبق المثل الدارفورى"مسح الزيت على الصوف" دلالة على عدم الغوص والمسح على الجلد.

2/ أبرز مظاهر الأزمة فى دارفور اليوم يتمثل فى وجود معسكرات النزوح واللجؤ وما لم تتصد القوى الوطنيّة والإقليميّة والدوليّة المسؤولة لحلها ستظل الأزمة قائمة وعنوان للفشل فى الإحاطة بها، للأسف ليست هناك أيّة إستراتيجيّة متكاملة معلومة اليوم من أجل ذلك رغم توقيع إتفاقيات وتكوين مفوضيّات وتنصيب هياكل حاكمة لكنّها ظلت بلا فاعليّة مع إزدياد تفاقم الأزمة مطلع كل شمس جديد.

3/ لا توجد، على حد علمى ومتابعتى، خطط معلنة، ناهيك عن رؤى، متكاملة تتضمن برامج محددة للحلول مربوطة بجداول زمنيّة وخرائط طرق بحيث تعرف كافة الأطراف الفاعلة ومجتمع الإقليم إتجاه سير الجهود للحل وما يجب عليهم فعله فكل المبادرات المطروحة مبتورة الرؤى وميزانيات مستهلكة وخلافات معلنة وإجتماعات ومؤتمرات تنعقد وتنفضلا تقترب من التعامل الجاد مع الجذور الحقيقيّة للأزمة أو تخاطب مشاغل أهل الإقليم بالرغم من أنّ الضحايا من النازحين واللاجئين يموتون من الجوع والعطش والمرض والبرد القارص والبطش ولا نصير لهم، إضافة لذلك هناك سيل هائل من التصريحات المتتابعة ومن مختلف الولاة عن إنشاء مئات من المشاريع وسوف يتم إفتتاحها فى آجال معلنة لكن تمر الأيام والشهور ولا شيئ يحدث فالأمانة تقتضى على الأقل نشر قائمة بهذه المشاريع مع صور ميدانيّة وخرائط لإثبات حقيقة ذلك وقد صرّح والى شمال دارفور مؤخراً عن إكتمال تنفيذ أكثر من 300 مشروع جاهزة للإفتتاح وتحدث آخرون عن إكتمال تنفيذ عدد من قرى العودة الطوعيّة فأين هى هذه المشاريع؟

4/ لحل مسألة الحواكير يجب البدء أولاً فى تكوين لجان قاعديّة فى معسكرات النزوح واللجؤ لتحديد القرى والمناطق المستهدفة بواسطة الأهالى المهجرين أنفسهم بغرض تفويجهم وإعادتهم لها ضمن خطة مبرمجة وإنشاء بنك معلومات لذلك والعمل بصورة لصيقة مع زعماء الإدارة الأهليّة وشيوخ المعسكرات وإستخدامهم بفاعليّة فى إستفراغ هذه القضيّة الحسّاسة وإعادة برمجة مهام اليوناميد لتتركز فى هذا المجال تحديداً، ومن أجل هذه المهمة يجب إعادة تأهيل الإدارة الاهليّة وتوفير الصلاحيات الحقيقيّة للزعماء وإعادة هيبتهم، كل فى إطار قبيلته أو منطقة نفوذه، وإلزامهم بتنفيذ القرارات الملزمة لهم وعلى تابعيهم ومن ثمّ تتم إعادة المهجرين إلى مناطقهم الأصليّة عبر خطة مبرمجة ومدى زمنى معقول تقوم بتنفيذها الإدارة الأهليّة بالشراكة مع القوات المسلّحة وقوات اليوناميد والقوى الدوليّة يتلازم ذلك مع تهيئة الأوضاع وصرف التعويضات فى مناطق عودتهم ومساعدتهم الدخول السريع فى دائرة الإنتاج، لقد صرّح السيّد عثمان محمد يوسف كبر والي شمال دارفور مؤخراً عدم إمكانيّة عودة الإدارة الأهلية لولايات دارفور كما كانت في السابق لكنّه أضاف بأنّ هذا لا يعني أنّ دورها قد إنتهى "إذ يمكنها أن تلعب أدواراً مهمة جداً في رتق النسيج الإجتماعي وتمتينه بين المواطنين" وهذا هو عين المطلوب فى المرحلة القادمة يمكن تطبيقه عبر آليات محددة ومستحدثة تتعامل بتركيز شديد وبعمق فى مهام رتق النسيج الإجتماعى بالإقليم وتمتين اواصر الوئام والتعايش السلمى.

5/ إستراتيجيّة الحلول لمختلف القضايا يجب أن تكون مرنة وفضفاضة تقوم على تعدد المسارات فمثلاً بعد حل معضلة الحواكير يمكن تطبيق أسس العودة المبرمجة، وليست الطوعيّة، توفير الأمن،  التعويضات الفرديّة والجماعيّة فى قرى العودة، الشروع فى الدخول لدائرة الإنتاج،كل هذه الجهود يجب أن تسير جنباً لجنب مع برنامج النفرة الأولى للإستقرار مسنود بالدعم الغذائى والصحى ومياه الشرب عبر تناكر تجوب القرى ومناطق العودة المستهدفة مثلما يحدث للقرى والبدو فى المملكة العربية السعودية لتأتى بعدها تنفيذ برامج الحياة المستقرة مثل فتح المدارس الملحقة بالداخليات وبناء المشافى وتخطيط القرى وإنشاء الأسواق ومراكز الشرطة وتأهيل مصادر المياه الدائمة مع دعم الإدارات الأهليّة لتنظيم شؤون الزراعة والمراعى والمحاكم الأهليّة ومبادرات العفو والمصالحات، مثل هذه الإستراتيجيّة هى التى تجذب المجتمع الدولى والمانحين للتفاعل مع قضايا الضحايا لكنهم للأسف لم يلمسوا شيئاً من ذلك فإنفضوا.

6/ يجب التخطيط الجاد لإستقرار القبائل الرحل وتأمين القبائل المستقرة فحياة الترحال قد عفا عليها الزمن ولا بد من توفير مناخات صالحة للأجيال الناشئة للتعليم فذلك هو المدخل الفاعل والصحيح لمعالجة الكثير من المشاكل والنزاعات التى تنشأ بين الرعاة والمزارعين ولعل تطبيق برنامج تنموى لإنشاء مزارع مختلطة (زراعى حيوانى) فى دار كل قبيلة ومناطق توطين جديدة للبدو ستساعد كثيراً فى إستقرار قطاعات واسعة من الرعاة بالإستفادة من دورات الزراعة والرعى فى المخلفات الزراعيّة مثلما يحدث فى معظم دول العالم التى تجاوزت مسألة الرعى عبر المراحيل والمسارات من زمن بعيد، إنّ الحل الوحيد للإشكاليات التى تواجه البدو هو الإستقرار وتقديم الخدمات لهم عبر برامج للتوطين يتم إختيارها بعناية، ويجدر الإشارة هنا بتمتع الإقليم بمصادر هائلة من أحواض المياه الجوفية تفوق فى حجمها كل مياه نهر النيل الأمر الذى سيسهل عملية الإستقرار ولقد تطورت تقنيات الطاقة الشمسيّة وطاقة الرياح لضخ المياه الجوفيّة والسطحيّة وإنخفضت تكاليفها ولا ينقصنا إلا الخيال الخلاق والأفق الواسع والإبتعاد عن الحلول النمطيّة العقيمة لإستثمار هذه الهبات الإلاهيّة لعمارة الإقليم.

أدعوا أبناء الإقليم والسودان الحادبين على مصالح ومستقبل دارفور التصدى والتعبير عن المآسى التى يتعرض لها هؤلاء الضحايا المنكوبين وما يحيط بهم فى غفلة من الزمان فدارفور لم تكن كهذه وسوف لن تعود كما كانت  دون تفاعل وإنتباه الجميع مع دور فاعل من مهندسى المجتمع، ولعل الأجيال الحاليّة التى تعيش هذه المآسى فى موقف تحد لذاتهم وإرادتهم فقد وضعهم لحظة التاريخ فى هذا الموقف ويجدر بهم أن يكونوا فى مقام التحدى ومن أهمّ ذلك تطوير رؤى ومبادرات تقدم حلولاً وأفكاراً وإستنباط الدروس من تجارب الماضى والحاضر للولوج للمستقبل،، وقل إعملوا..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "دارفور.. والعودة للمستقبل" عبارة عن مظلّة لمقالات متسلسلة مختلفة المواضيع تتناول مستقبل دارفور وهى تعبر عن رأى الكاتب الشخصيّة.

Welcome

Install
×