الأستاذ الهادي هبَّاني لـ”راديو دبنقا”: أهم الإجراءات في تبديل العملة أن تتم العملية بدون إعلان
امستردام: 14 نوفنبر 2024: راديو دبنقا
حوار: سليمان سري
قرر بنك السودان المركزي طرح عملة نقدية من فئة الأف جنيه خلال الفترة القادمة، وعزا قراره لعدة مبررات ساقاها في بيان منشور عبر الإعلام وتتعلق بنهب “الدعم السريع” لمقار بنك السودان المركزي وشركة مطابع السودان للعملة في الخرطوم.
جاء ذلك بعد مرور عام ونصف على اندلاع الحرب مما يثير الجدل حول هدف القرار وتوقيته.
في هذا السياق يقدم الباحث والمهتم في القضايا الاقتصدية الهادي هباني قراءة تحليلية حول أبعاد القرار والنتائج المتوقعة.
ــ لماذا قرر بنك السودان اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت بعد 18 شهرًا من الحرب، برأيك؟
- يتمثل السبب الرئيسي للقرار في سعي الحكومة للضغط علي قوات الدعم السريع وعلي تجفيف السيولة التي ظلت متراكمة لديها قبل الحرب، وزاد تراكمها بعد الحرب من خلال سرقة نقود البنوك في العاصمة والمدن، التي هيمنوا عليها وسرقة المدخرات النقدية للأفراد من البيوت والمنشآت الاقتصادية الخاصة بهم ومحلاتهم التجارية، وأيضًا من خلال التوسع في تزييف العملة وطباعة كميات ضخمة من النقود بالذات من الفئات الكبيرة التي تمثل مخزنًا أكبر لقيمة العملة وتمثل ما لا تقل نسبته عن 25% من إجمالي العملة المتداولة. وهيمنتهم علي مطابع العملة التابعة للبنك المركزي، أعطاهم مقدرة أكبر للتوسع في طباعة العملة التي وصفها قرار البنك المركزي بالعملات مجهولة المصدر.
• ويشير راديو دبنقا في هذا الصدد إلى أنه لم يتمكن من الحصول على تعليق فوري من قوات الدعم السريع ردا على الاتهامات الواردة في هذه الإجابة أعلاه وغيرها من فقرات الحوار.
د.هباني: هذا بجانب تحكم “الدعم السريع” عمومًا في تجارة العملة قبل الثورة وبعدها وقبل الحرب وبعدها علي وجه الخصوص من خلال تحكمهم في النسبة الأكبر من التحويلات المصرفية، عبر تطبيق بنكك باعتبارهم الجهة التي تمتلك السيولة حاليًا وتتخذ من عملية المتاجرة بتسييل تحويلات بنكك مصدرًا إضافيًا للسيولة.
- وبرغم أن عجز السيولة لدي الحكومة نتيجة انخفاض إيراداتها بنسبة تفوق الـ 85% عما كانت عليه قُبَيل الحرب، يمكن أن يكون أحد أسباب استبدال فئة الـ 1000 جنيه وإلغاء فئة الـ 500 جنيه إلا أنه لا يعتبر سبباً رئيسيًا، حيث أن الحكومة قد اتخذت من طباعة النقود منذ إندلاع الحرب مصدراً رئيسياً لتمويل العجز في الموازنة ولتمويل الحرب، بجانب إيرادات عمليات تصدير احتياطيات الذهب بشكل مباشر أو من خلال السمسرة في عمليات صادر الذهب غير المشروعة للمتنفذين من تجار الحرب.
- فـ”حكومة الأمر الواقع” لا يهمها تضخم ولا كساد ولا مواطن ولا سيادة للعملة الوطنية ولا سلامة للجهاز المصرفي ولا يهمها أويأتي ضمن أولوياتها توافر السيولة لديها، ولا تهتم بعرض النقد وبالتوازن بين الكتلة النقدية وحجم السلع والخدمات في البلد.
دبنقا: هل يستطيع البنك المركزي بتغيير هذه الفئة إعادة السيطرة على الكتلة النقدية والتي تمثل قرابة 90% منها خارج المصارف..؟
د. هباني: بالتأكيد لن يستطيع إلي ذلك سبيلا فكل القطاعات الانتاجية والخدمية معطلة ومشلولة ومدمرة تمامًا. والبنوك تشكو لطوب الأرض من قلة الإيداعات وعجز السيولة والعزلة الدولية والإقليمية، حتي احتياطياتها لدي البنك المركزي أصبحت في خبر كان، وتحولت مجرد أرصدة دفترية لا تُسمن أو تغني من جوع وهي مهددة بالإفلاس التام والناس أصبحوا لا يملكون ما يودعونه أو يدخرونه في البنوك ولا يعرفون طريقها.
- علماً بأن العملات المزورة في ظل الحرب أصبحت مبرئة للذمة ويتم تداولها بشكل طبيعي بين الناس في التبادل الاستهلاكي والتجاري وهم يعلمون بأنها مزورة، ففي ظل ظروف الحرب لا شئ أكثر أهمية من مقاومة الموت والمكافحة لاكتساب أسباب البقاء.
- وأصلًا البنك المركزي لا يمتلك أدوات فاعلة لمراقبة تداول العملات المزورة ولا يُسأل أي عميل لدي البنوك عن مصدر إيداعاته مهما كان حجمها بل إن العملاء الذين يودعون مبالغ كبيرة يتم الترحاب بهم والتعامل معهم كعملاء مهمين من ذوي الملاءة المالية.
دبنقا: هل البنوك مؤهلة ولديها قدرة على تنفيذ القرار وكيف ستعالج مشكلة السودانيين في الخارج؟ - لا أعتقد بأن البنوك لديها مشكلة برغم ضعفها وصعوبات العمل التي تواجهها في ظروف الحرب ونزوح أعداد ضخمة من العاملين بالبنوك داخل السودان وخارجه، بالذات الخبرات العاملة في أقسام الخزينة إذا قام البنك المركزي بتوفير الكميات المناسبة لها من فئات العملة الجديدة، ليتم استبدالها بالعملات الملغية، لكن الأزمة أن الإقبال على تغيير العملة لن يكون بالحجم الذي يتوقعه البنك المركزي، خاصة إذا التزم بتطبيق الضوابط الرقابية المعتادة عند استبدال العملات القديمة بالجديدة والتي من بينها التحقق من مصادر الأموال للعملاء الذين يتقدمون باستبدال عملاتهم. فإما أن يحجموا عن استبدال عملاتهم إذا طالبتهم البنوك بمصادر قانونية مشروعة لأموالهم لا يستطيعون تقديمها، أو تقوم البنوك باحتجاز هذه الأموال وتبقي مجمدة بالنسبة لهم لفترات طويلة حتي يتمكن أصحابها من تقديم المستندات اللازمة لإثبات مصادرها المشروعة.
- أو في حال وضع البنك المركزي شرطاً بالتنسيق مع وزارة المالية لسداد المستحقات الضريبية المتأخرة المتراكمة عند استبدال العملة القديمة بالجديدة (وهو ما يمكن أن يكون أحد أسباب تغيير الفئتين المذكورتين لزيادة حصيلة الضرائب) مما يجعل مالكي العملات القديمة يحجمون عن الإيداع أو يتبعون أساليب غير مشروعة وتفشل العملية في إحلال العملات الجديدة. خاصة وأن البنك المركزي بإعلانه المسبق لقرار الفئات المذكورة من العملة قد قام بالتنبيه المسبق لمجرمي تزييف العملة والمتاجرة بها وقدم بالتالي أسباب فناء وفشل القرار، حيث أن أهم المعايير والإجراءات في تبديل العملة أو بعض فئاتها لمحاربة الفساد أو تزييف العملة هو أن تتم العملية بدون إعلان وفجأة حتي لا يجد مجرمي التزوير وتجار العملة مجالًا لتدبير حالهم ويصبحوا مضطرين لمواجهة الأمر الواقع، أو أن تتم العملية بشكل تلقائي تدريجي عادي دون الإعلان عنها ودون أن يحس بها الناس وذلك بطرح الفئات الجديدة في البنوك وأي إيداعات للعملات القديمة يتم حصرها وختمها في البنوك كفئات عملة ملغية، وعند معاودة العملاء للسحب يصرف لهم من ما يقابلها من العملات الجديدة وخلال هذه الفترة تستمر فئات العملة القديمة مبرئة للذمة جنباً إلي جنب مع الجديدة، ويتم التعامل بها حتي يتم إيداعها البنوك أو تتلف وتصبح غير صالحة للتداول ويضطر أصحابها لإستبدالها وبالتالي تتم العملية بدون ضجة. وإن كان أن مثل هذه التدابير تتم في الظروف العادية وليس في ظروف الحرب الحالية وكان من الأفضل تأجيل هذا الأمر حتي تنتهي الحرب بشكل نهائي.
- أو أن تجد هذه المافيا طريقها إلي البنوك وتستبدل النقود التي بحوزتها بأساليب غير مشروعة (وهو متوقع بالتأكيد)، ولن تجد مشكلة في سحبها بكافة السبل التي تتيحها البنوك نفسها ويصبح القرار الذي اتخذه البنك المركزي في خدمة مصالح المافيا الاقتصادية المتحكمة في السيولة، وفي تجارة العملة وفي تزييفها وعلي رأسها “الدعم السريع” أنفسهم بمؤسساتهم المختلفة وبأسماء أفراد منضوين لهم أو متعاونين معهم. ولذلك من المتوقع إذا استمرت “حكومة الأمر الواقع” في قرارها أن تتكدس خزائن البنوك (علي فقرها) بكميات مهولة من العملات المزورة مجهولة المصدر والمنتصر الوحيد في كل ذلك هو المافيا الاقتصادية المتحكمة في تجارة العملة والاقتصاد من طرفي الحرب والأطراف العاملة معها والتابعة لها.
- أما السودانيين بالخارج فالوضع الطبيعي في الظروف العادية أن تتم عملية الإيداع إما عن طريق فروع البنوك السودانية بالخارج (إن وُجِدت) أو عن طريق البنوك المراسلة للبنوك السودانية التي يتم الإعلان عنها من البنك المركزي أو من البنوك التجارية نفسها. ولكن البنوك السودانية معزولة دوليًا وإقليمياً وتعاني منذ زمن طويل منذ عهد “النظام البائد”، مرورًا بفترة الحكومة الانتقالية و”حكومة الأمر الواقع” بعد انقلاب أكتوبر 2021م وبعد الحرب من انعدام أو شح شبكة المراسلين وتراكم التزامات البنوك التجارية، عبر سنوات سابقة للمراسلين وبالتالي سيجد السودانيين بالخارج أنفسهم مضطرين إما الذهاب للسودان لإيداع أموالهم أو إرسالها للداخل ليتم إيداعها من خلال معارفهم وأهلهم، أو أن يقعوا فريسة لتجار العملة الذين سيقبلون أموالهم بأقل من قيمتها الحقيقية ليحققوا أرباح لهم وهو السيناريو الذي سيحدث بالتأكيد. وبالتالي تصبح العملية كلها بدلًا من معالجة مشكلة التزوير وتجفيف السيولة لدي “الدعم السريع” ستخلق مجموعة من المشاكل والأزمات الاقتصادية الجديدة وتشجع تجارة العملة غير المشروعة.
دبنقا: الا يمكن أن يشكل ذلك ازدواجية ويثبت الحكم المدني في مناطق سيطرة الدعم السريع بما يؤدي لتقسيم البلاد بالعمل بالعملتين؟
د. هباني: القرار الصادر هو إلغاء فئتين فقط هما فئة الـ 1000 جنيه وفئة الـ 500 جنيه ولا يشتمل علي العملات الأخري من الفئات الوسطي أو الدنيا الأكثر تداولًا. أي التي تمثل ما نسبته 75% من العملة في التداول، أي أنه ليس تغييرًا للعملة بالكامل حتي يتسبب في قيام نظامين نقديين في البلد الواحد، ولكنها ستزيد من حجم سوق النقد الموازي خارج القنوات الرسمية بما في ذلك التعامل العادي بالعملات المزورة أو غير المعتمدة.
- عناصر قوات الدعم السريع هم الأكثر تحكمًا في السيولة خارج القنوات الرسمية وأيضا لديهم شبكة حسابات داخل البنوك، موظفة في تجارة العملة عبر تطبيقات البنوك المختلفة وعلي رأسها تطبيق بنكك.
- وبالتالي فإن مصلحة “الدعم السريع” تكمن في استمرارية الوضع الحالي وليس في تقسيم البلاد علي أساس عملة جديدة أو عملة قديمة، خاصة أن الجزء الأكبر من الكتلة النقدية خارج الجهاز المصرفي وداخله في يد “الدعم السريع” ولا يستطيعون خلق ظروف جديدة تُفقِدَهم هذا التحكم الأكبر في النقد المتداول. أعتقد أن تبديل الفئتين المذكورتين من العملة لن يضر، بل وعلي العكس سيتمكنوا من تكييف أوضاعهم بما يحافظ علي نفس مستوي تحكمهم في الكتلة النقدية داخل وخارج البنوك.
دبنقا: لماذا صمت البنك المركزي طيلة هذه الفترة عن هذا التزوير وهل هذا حل ناجع وماهي الحلول التي كان يمكن اتباعها؟
- البنك المركزي في الحقيقة لا يمتلك أدوات وسياسات وإجراءات رقابية وإشرافية صارمة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وفقًا للمعايير المتعارف عليها بجانب الفساد داخل البنك المركزي وداخل الجهاز المصرفي والأجهزة الحكومية ذات العلاقة، ولا توجد رقابة علي تداول النقد وعلي عمليات الإيداع والتداول وعلي عمليات التبادل في بعض القطاعات الهامة التي تتميز بتداول النقد بكميات كبيرة كقطاع المتاجرة في الأراضي والعقارات وقطاع تجارة الذهب والحلي والمجوهرات.
- بالإضافة لغياب الرقابة علي الحسابات المصرفية ذات المخاطر العالية كحسابات كبار العاملين في الدولة وفي أجهزتها التنفيذية والسيادية والبرلمانية، وكبار ضباط القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وضباط الدعم السريع والدبلوماسيين والمتنفذين في السلطة السياسية وأجهزة الدولة وكبار العاملين في مجالس إدارات المصارف وفي إداراتها التنفيذية.
• كما ينوه راديو دبنقا إلى أنه لم يتمكن كذلك من الحصول على رد من البنك المركزي أو الحكومة السودانية بشأن ما ورد في هذه الإجابة الأخيرة من اتهامات.