أ.د. الطيب زين العابدين: الذي يقف على البر عوّام! ..

يعني هذا المثل السوداني السائر أن هناك من يقف في البر على حافة البحر دون أن يجرؤ على السباحة ومع ذلك يقدم نصائحه النظرية للسابحين ماذا يفعلون …

ا.د. الطيب زين العابدين(وكالات)

بقلم: أ.د. الطيب زين العابدين

 

يعني هذا المثل السوداني السائر أن هناك من يقف في البر على حافة البحر دون أن يجرؤ على السباحة ومع ذلك يقدم نصائحه النظرية للسابحين ماذا يفعلون وكيف يجيدون سباحتهم، ويتصف الواقفين على البر عادة بقدر من الغرور والتعالي رغم عدم الخبرة (فصاحة ساكت!). وأمثلة كثيرة تسير في ذات الاتجاه: الجمرة تحرق الواطيها، أسأل مجرب ما تسأل طبيب. ولكن الحكمة السودانية متعددة تعدد أهلها ومناطقهم وأعراقهم وثقافاتهم فهي لا تسير في اتجاه واحد. فهي أيضا تقول: نصف رأيك عند أخيك، كان أخوك قال ليك راسك ما في ألمسو، ويقول الأثر الشريف: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار. وأنا اعترف أني أعيش بعيدا في البر، وهو بر آمن مستقر لا يشبه اضطرابات الخرطوم ومعاركها وثوراتها. ولكني منفعل باضطرابات الخرطوم وأحداثها أكثر من انفعالي بهذا البر الآمن المستقر لأني انتمي لتلك البقعة بكل أحاسيسي وأعصابي ومعارفي وتاريخ حياتي، ولا خيار لي البتة في هذا! وكل هذه المقدمة غير الضرورية من أجل تقديم نصيحة نظرية لمن يسبحون في بحر الخرطوم المضطرب الأمواج وأنا بعيد عنهم.

أحسب أن مشكلة الانتقال إلى حكومة مدنية هي حتى الآن المشكلة الرئيسة رغم الوقت الطويل الذي أهدر في المفاوضات حولها بين المجلس العسكري الانتقالي وبين قوى الحرية والتغيير. وبما أني منحاز للديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان فموقفي ثابت ضد الحكم العسكري أيا كانت عناصره وأيدولجيته ومواقفه السياسية، فهو بحكم تربيته العسكرية التراتيبية الطويلة لا يؤمن بالديمقراطية في اتخاذ القرار ولا بإتاحة الحريات العامة لأنها في تقديره مدعاة للفوضى ولا بحقوق الإنسان. ولديهم إيمان راسخ بأن أي عسكري مهما كان تأهيله ضعيفا هو أفضل من أي (ملكي) لأن الأول منضبط (يسمع الأوامر وينفذها) والثاني غير منضبط ولا يعتمد عليه في تنفيذ الأوامر. لذلك فإن نصيحتي تأتي دعما لتحقيق شعار الثورة الشبابية: سلام حرية عدالة والثورة خيار الشعب. ولا يعني هذا أن نصيحتي ستعجب شباب الثورة أو قيادتها خاصة في هذا المقال، لأن لكل منا فكره وتجربته وحقه في الاختلاف مع الآخرين بصرف النظر عن عددهم ومكانتهم الاجتماعية أو السياسية. وأثبتت التجربة السودانية عمليا أن الحكومات العسكرية استولت على سلطة إدارة الدولة عن طريق الانقلابات العسكرية ثلاث مرات منذ الاستقلال في 1956: 6 سنوات حكم عبود، 16 سنة حكم النميري، 30 سنة حكم البشير، أي 52 سنة من مجموع سنوات الحكم الوطني التي تبلغ 63 عاما. الأول كان أقل سوءً لكنه حكم مستبد تنازل كثيرا لمصر في اتفاقية مياه النيل التي أغرقت منطقة حلفا مقابل تعويض بائس للمواطنين وزاد من العداء تجاه ثقافة أهل الجنوب؛ الثاني كان أكثر سوءً ودموية وفشلا وفاقم الحرب في جنوب السودان بعد اتفاقية تنكر لها؛ الثالث كان أكثرها دموية واستبدادا وفسادا وفشلا في كل مجالات الحياة، فقد أدى بسياساته الخرقاء لفصل الجنوب، واشعال الحرب الجائرة في دارفور، والدخول في عداوة غير مبررة مع المجتمع الدولي مما عرض البلاد إلى عقوبات قاسية. وهو ما عقد اجماع الشباب على عداوته وكراهية شعاراته الإسلامية الزائفة التي لم تردعه عن أي منكر ارتكبه في حق الوطن والمواطنين. وأحسب أن النخبة السياسية اليوم تجمع على كراهية الحكم العسكري إلا من ارتبطت مصالحه المادية بذلك النوع من الحكم. وهذا يعني أن الحكم العسكري المتطاول هو الذي هبط بالسودان إلى هذا الدرك السحيق من التخلف والفشل والفساد الذي نعيش فيه حاليا، ولا ينبغي له أن يأخذ فرصة أخرى في حكم السودان مهما كانت ذريعته.

اليوم تمر الأزمة السياسية بمرحلة مفصلية بعد مذبحة التاسع والعشرين من رمضان والذي اعترف المجلس العسكري أخيرا بأنه قد أمر بها وأن تجاوزات كبيرة قد وقعت في تنفيذها تستحق التحقيق والمحاسبة وأنا أحمد للمجلس هذا الاعتراف، لكن قراره يدل على غباء سياسي وخطأ في التقدير لا ينبغي أن يصدر من جهة مسؤولة، فقوات الدعم السريع التي تصدرت الهجوم في المذبحة سلوكها الدموي معروف للكافة في كردفان ودارفور وقد قامت عدة ولايات بطردها من أراضيها، وقائدها مطلوب لمحكمة الجنايات الدولية. فكيف يجوز للمجلس العسكري أن يكلف قوة مرتزقة غير منضبطة بالهجوم على المعتصمين السلميين العزل؟ إنه خطأ مهني وأخلاقي جسيم من قبل المجلس العسكري الذي احتمى بساحته الثوار من بطش الرئيس المخلوع.

كيف يستأنف التفاوض في ظل الشد والجذب القائم الآن بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري بعد ان اعترف بمسؤوليته في الأمر بالمذبحة دون أن يضبط آلية تنفيذها، ودون أن يحذر المعتصمين من تداعياتها؟ وهو شأن قانوني معلوم في تعامل الشرطة مع كل المظاهرات السلمية حتى لو كانت نهارا دعك من أن تتم غدرا باليل والناس نيام! أرى أن تراعي قوى الحرية والتغيير الأسس التالية في التعامل مع المجلس العسكري:

1. تواصل قيادة التجمع بقواعدها الشبابية حتى تضمن التأييد المطلوب لمواقفها السياسية محل التفاوض، والانفتاح على القوى السياسية الأخرى المؤيدة لأهداف الثورة والتي من شأنها أن توسع التوافق بين أهل السودان حتى لا تنحاز للطرف الآخر.

2. الاستعجال في إنهاء التفاوض بأسرع فرصة ممكنة لأن استطالة التفاوض ليس من المصلحة في شيء خاصة ونحن نعلم أن أجندة أخرى داخلية وخارجية مضادة لأهداف الثورة السودانية تعد بديلا لسيناريو الاتفاق مع قوى الحرية والتغيير.

3. أن يبدأ التفاوض بصورة غير مباشرة عبر لجنة الوساطة الافريقية ويمكن أن يضم لها بعض الشخصيات الوطنية المعروفة، لتكون شاهدا ومسهلا لعملية التسوية المطلوبة. وأن تكون أجندة التفاوض غير المباشر هو تثبيت ما تم الاتفاق عليه حتى الآن وأيده المجتمع الدولي وهو: تكوين المجلس التشريعي بنسبة 67% لقوى التغيير و33% للقوى السياسية الأخرى؛ تكوين حكومة كفاءات وطنية (غير ناشطة حزبيا) بترشيح من قوى الحرية والتغيير، ولا بأس أن تسمع لجرح وتعديل من الآخرين ومن المجلس العسكري على ترشيحاتها فهي حكومة لكل أهل السودان وأقاليمه المختلفة دون تفويض انتخابي ملزم؛ أن تكون الفترة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات تنجز فيها الحكومة برنامجا سياسيا وتنفيذيا متفق عليه بصورة عامة يتقدمه: تحقيق السلام مع الحركات المسلحة، معالجة الضائقة الاقتصادية، محاسبة الفاسدين ومستغلي النفوذ ومرتكبي الجرائم في حق الشعب من النظام السابق، تكوين لجنة تحقيق مستقلة وذات مصداقية في أحداث مذبحة المعتصمين ومحاسبة المسؤولين عن تجاوزاتها، إصلاح الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة الرئيسة حتى تستعيد مهنيتها وقوميتها، توحيد القوات المسلحة تحت منظومة واحدة يحكمها قانون موحد، اخلاء العاصمة عاجلا من مليشيات الدعم السريع التي عاثت فسادا ونهبت ممتلكات المواطنين وتكليف الشرطة بتأمين المواطنين مستعينة بالجيش حتى تستعيد قوتها الكافية لتقوم بذلك وحدها، البعد عن التصعيد واللهجة العدائية في وسائل الإعلام، تبني سياسة خارجية تلتزم بالاتفاقيات الدولية وترعى حقوق الإنسان وتنأى عن المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة، اتاحة الحريات العامة وتوفير وسائل الاتصال الاليكترونية التي أصبحت أداة لكثير من الخدمات الضرورية.

4. إذا تم تثبيت تلك الأسس السابقة عبر لجنة الوساطة الافريقية وتمثيل المجتمع الدولي فلا بأس من لقاء مباشر بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير للتصافي من الاحتكاكات السابقة وللاتفاق على عضوية المجلس السيادي وتولي رئاسته. ولا ينبغي أن يكون هذا الأمر موضوع نزاع ومفارقة بل ينبغي أن يحدث توافقيا حتى يفتح المجال لتعاون مثمر ومنتج بين أطراف العملية السياسية حتى تعبر البلاد المرحلة الانتقالية وقد أنجزت أرضية صلبة لقيام النظام الديمقراطي التعددي في البلاد. أتمنى أن يكون هناك اتفاق شرف بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير أن يكون التصويت في كل أجهزة الدولة الرئيسة الثلاثة على أساس فردي لأن الاختيار أصلا يتم على أساس فردي وليس تمثيلا لكتلة بعينها في هذا الجهاز أو ذاك، وحتى يتسم التداول داخل الأجهزة بالحرية والصراحة دون مواقف مسبقة تحددها جهة ما لبعض منسوبيها في هذه الأجهزة، حتى لا تكون النتيجة هي حوار أصم!

[email protected]
///////////////////

        

Welcome

Install
×