أشهداءٌ هنا؟! نعم، وجثامينُهم متحللةٌ داخل ثلاجات وبلاط المشرحة !! ..
* النائب العام أضعف من أن يكشف للمجتمع عوار العدالة العوراء وهي تتخبط، ترى ولا ترى لأن زاوية الرؤية عندها زاوية عمياء.. إتخذتها موقعاً للتخبط المدروس.. وتركها النائب العام على حالها ذلك المزري كلَّ الوقت..
بقلم: عثمان محمد حسن
* النائب العام أضعف من أن يكشف للمجتمع عوار العدالة العوراء وهي تتخبط، ترى ولا ترى لأن زاوية الرؤية عندها زاوية عمياء.. إتخذتها موقعاً للتخبط المدروس.. وتركها النائب العام على حالها ذلك المزري كلَّ الوقت.. ولا مساءلة حول دماء الشهداء التي سالت هدراً .. ولا مساءلة حول السوائل والدهون التي سالت من جثامينهم في المشارح وفاضت وتسربت إلى خارج المشارح بدداً..
* أثارت تلك السوائل والدهون التقزز.. وأشعلت الغضب المكتوم في الصدور على الخيبات المتوالية في البلد.. وذبول آمال عِراض تلألأت في أفق الثورة المجيدة أيام عنفوانها وانفتاح الكل على الكل:- "كان ما عندك شيل.. وكان عندك خُت!"
* يا من صنعتم الثورة تلك الباهي لونها، أوقفوا تخبط العدالة العوراء الذي يهدد جذور الثورة بانخراط المسئولين (غير المحترمين) في صناعة فوضىً نعرف أنها فوضى منظمة بغرض التعمية وتغييب المعالم، حتى لا نستبين ما وراء "حدث ما حدث!"
* سقوط نظام البشير كان فرصة لتقويم مسار السودان نحو الديمقراطية والعدالة ونحو اللحاق بركب الدول السوية ذات مواعين تنفيذية واسعة لإستيعاب حقوق الإنسان جميعها.. حقوق الإنسان وهو حي وحقوقه بعد أن يفارق الحياة .. ولكن يا لخسارة الدماء التي قدمها شهداء الشباب المتطلع لحياة أفضل لمستقبل الوطن، ولم يجدوا القصاص من زبانية البشير الذين أهدروا دمهم، وقتها، في كل بقاع السودان.. كما لم يجدوا القصاص من اللجنة الأمنية للنظام التي أهدرت دمه في ميادين الاعتصام وفعاليات الثورة، بعد سقوط النظام.. ولا وجدوا القصاص من القتلة، حتى الآن، فعدالة الحكومة العسكرية المُتمدْينة عوراء، بل عمياء لا ترى ما نرى من اعوجاجات في دروب الحياة في السودان..
* رموا بجثامين الشهداء في ثلاجات مشارح، جثماناً فوق جثمان، بلا ترتيب، كما تُرمى النفايات في مزابل مكتظةً بمختلف أنواع النفايات.. وجاء انقطاع التيار الكهربائي ل(يتم الناقصة)، فتحللت الجثامين وسالت منها سوائل ودهوناً طفحت داخل المشارح وفاضت إلى الخارج تثير التقزز والغضب!
* هكذا تعامل نظام البشير مع الجثامين، وسار المجلس العسكري على نفس النهج، وتبعت الحكومة العسكرية (المتمدْينة) النهج نفسه..
* زعم النائب العام أن الجثامين مجهولة الهوية وأنها قديمة.. ونحن نعلم أن معظمها جثامين لثوار ديسمبر منذ اندلعت في الدمازين وعطبرة وانتشرت في باقي مدن وقرى السودان.. ونعلم أنها جثامين ثوار لا يعرف أهلوهم مكانهم، ويقال عنهم (مفقودون).. بينما هم موتى مرميون في المشارح.. ووجدت مع بعضهم أوراقهم الثبوتية..
* إن (مقاصيف) الحكومة العسكرية (المُتْمَدْنِية) تكذب بالشراكة في الثورة.. ومن يسمع جعجعاتها في وسائل الاعلام يتوقع أن يرى طحيناً في اليوم التالي، لكن لا طحين يخرج من لدن أفاقين كانوا يتربصون بالثورة.. وحين تحينوا الفرصة انقضوا عليها في هبوط ناعم.. وتسيَّدوها..
* إنها حكومة حجاج ابوظبي (واقفين رصة وماسكين المنصة)
يستوزرون جماعة (حفرتهم).. وآخر ألاعيبهم ترشيح أحد كبار عملاء دولة الإمارات لمنصب رئيس المجلس التشريعي..
* الحكاية باظت خلاص! وليس في قلوب هؤلاء ذرة تعاطف مع جثامين الشهداء، فالجثامين لم تكن إلا سلالم ارتقاها عملاء دولة الإمارات للوصول إلى المناصب الدستورية.. ولما نالوا مرماهم، رموا الجثامين في الزبالة!
_____________________
حاشية: إقتحمت قصيدة (عنبر جودة) متابعتي لأحداث الجثامين المرمية في مشارح مدينة الخرطوم ومدن سودانية أخرى.. وهي قصيدة عبر فيها شاعرنا صلاح أحمد إبراهيم عن مأساة العشرات من المزارعين لفظوا أنفاسهم، اختناقاً، بعد أن أُثاروا ضد الظلم.. فأودع ٢٤٠ ثائراً منهم في حراسة ضيقة جداً بمدينة كوستي، في عام 1955.. ولستُ أدري لماذا اقتحمت القصيدة ذاكرتي، وإليكموها:-
عشرون دستة
لو أنّهم حزمةُ جرجير يُعدُّ كيْ يُباع
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلختْ بشرتهم أشعةُ الظَّهيرة
وبان فيها الاصفرارُ والذبول
بل وُضعِوا بحذرٍ في الظلِّ في حصيرة
وبلَّلتْ شفاههُمْ رشَّاشَةُ صغيرة
وقبّلتْ خدودهم رُطوبةُ الإنْداءْ
والبهجةُ النَّضيرة
****
لو أنَّهُم فراخ
تصنع من أوراكها الحساء
لنُزلاء (الفندق الكبير)
لوُضعوا في قفص لا يمنعُ الهواء
وقُدم الحب لهم والماء
لو أنهم …
ما تركوا ظماء
ما تركوا يصادمون بعضهم لنفَس الهواء
وهم يُجرجرون فوق جثث الصحاب الخطوة العشواء
والعرق المنتن والصراخ والإعياء
ما تركوا جياع
ثلاثة تباع
في كتمة الأنفاس في مرارة الأوجاع
لو أنهم
لكنهم رعاع
من (الرزيقات)
من (الحسينات)
من (المساليت)
نعم … رعاع
من الحُثالات التي في القاع
من الذين انغرست في قلبهم براثن الإقطاع
وسلمت عيونهم مرواد الخداع
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
عند الذين حولوا لهاثهم ضياع
وبادلوا آمالهم عداء
وسددوا ديونهم شقاء
واستلموا مجهودهم قطنا وسلموه داء
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
النار …والرشوةُ …والدخان
والكاتب المأجور…والوزير
جميعهم وصاحب المشروع
بحلفهم يحارب الزراع
يحارب الأطفال والنساء
وينثُر الموت على الأرجاء
ويفتح الرصاص على الصدور
ويخنق الهتاف في الأعماق
ويفتح السجون حيث يُحشد الإنسانُ كالقطيع
ويحكم العساكر الوحوش
فيحرمون الآدمي لُقمة في الجوعْ
ويحرمون الآدمى جُرعة من ماء
ويغُلقون كل كوة تُمرر الهواء
وفي المساء
بينما الحُكام في القصف وفي السكر
وفي انهماك بين غانيات البيض ينعمون بالسمر
كانت هناك…عشرون دستة من البشر
تموتُ بالإرهاقْ
تموتُ باختناق
لو أنهم …
لكنهم…!